کد مطلب:306527 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:290

دموع بین مصیبتین


.. تطلعت الزهراء الی السماء دامعة الطرف، و هی تشاهد الظلام یسربل الكون بجلبابه الدامس، فاعترتها قشعریرة برد، و هی تستعید احداث یومها المنصرم فتتذكر تلك النظرات المنبعثة من عینی ابی طالب و هو یودع الحیاة، فهی لا تزال مرتسمة فی مخیلتها، فتلك المصیبة التی صدعت قلب ابیها، لهی كافیة فی ان تثیر الحزن العمیق فی نفس فاطمة.

وها هی الان تغوص وسط دوامة من اللوعة و الحزن، و هی تحدق بعینیها المترقرقة فیهما الدموع و تتأمل فی- وجه اُمها اذ ترسل حزماً مشعاً بالدف و الحنان المتدفق من عینیها، فترتمی بین احضانها بین باكیة و ساكنة عل صدر الام یعفیها من آلامها، فترتع قلیلاً تشم اردان خدیجة فتغفوا اجفانها فی حجر الام.

لكنها رأت غیر الذی كان، فوجه خدیجة لم یكن صافیاً كأیامها المنصرمات بل ان الصفرة لفعته بحمی جعلت منها عسیرة الانفاس، فتری الزهراء ذلك العنق الطویل،الذی كان منتصباً كعمود عاج قد تهدل و اعقبه احتقان و الم، و تلك العینین الجمیلتین، و اللتین لم تنس یوماً جمالهن، قد ذابتا و اصبح یشع فیهما نور ایمان یشوبه وجع و حزن مكظوم.

.. توقفت فاطمة امام تلك الصورة التی تذكرها بصورة ابی طالب عندما فارق الحیاة. و كأنها ادارت بوجهها نحو السماء، فرأت الغیوم تحوم فی الاجواء، فأحست بان یدیها متیبستین فأشاحت بوجهها، و استقبلت انظار اُمها و هی تطالعها بعینین جامدتین لشدة الرعب الذی انتابها.

فلن یطفو حدس او شعور علی بنت محمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم إلا وارتسمت معه الحقیقة فهل یا تری تنتهی المأساة الی هذا الحد، و قلب فاطمة یحدثها عن مصاب جدید.

فأحست بقلبها یغوص فی اعماق اعماق روحها فیحدثها عما سیؤول الیه حال


ابیها.

و ما انقضی اللیل حتی كان حاملاً معه احزان ولوعة، فخدیجة الام صارت طریحة الفراش؛ فحدس فاطمة ما كان یقض مضجعها الا لانها شعرت بأنه سیتمثل امامها بعد ایام.

و حقاً سیدتی هو ما قد حدث، فلقد مر علیك یومان صادفك خلالهما اعنف هزات الفزع و انت ترین امامك ما تفعله الاقدار بالاحبة.

فها هو ابوطالب رحل قبل یومین و خلف وراءه حسرات و حسرات و دموع و آهات.

لقد نزلت بالاسلام نازلة اُخری جعلته بین احضان القلق و العذاب.. و هو یحملق بشخص خدیجة و هی تودع الحیاة.

.. كان المسلمون یتوجسون خیفة عظیمة ترهب افكارهم، فبالامس و دعوا علماً من اعلام الایثار (ابوطالب)، والیوم یرون خدیجة قد لبست ثوب المرض و هی بین مشّقتین، بین حبها للاسلام، و بین جزعها و المها علی الذین یقطنون هذا الشعب المقفر، و هی تری نفسها مكبلة الایدی لا حول لها و لا قوةٌ...

و اوشكت حیاتها الان علی النهایة.

.. (و حقا) سترحل خدیجة كرحلة الشهداء.

.. فكأننی اراها قد التزمت زاویة من زوایا خیمة امها، و هی تعالج خوالجها ان شبحاً مرعباً طاغیاً كان یجرح بمخالبه احساسها، و یسربل فؤادها بسحابة قاتمة.

و بدئت لها الحیاة كأنها قد لفظت اهم جزء من جوهرها، ثم لم تكد تجهش بین بكاء وانین، و هی تحدث نفسه عن احلام الصبی السعیدة عن حجر الام و رائحته الطیبة، عن البسمات و الهمسات بین البنت و امها، و عن الدعابات المناغاة التی ربت و كبرت علیها، و هی تسمع امها تنشدها كل یوم قبل أن تودعها الفراش،فتغفو علی


هذه و علی تلك، اما الان فكل شی ء وصل إلی نهایته و نهایة هذا المطاف الفراق الذی اختاره اللَّه.

و هی تنظر الآن فی وجوه من یلاقیها و تتمعن فیها، فتجدها مكسرة المعانی و الملامح، فی حین قد زاد الهمس فیما بینهم؟

- ان أُم المؤمنین فی انفاسها الأخیرة؟

- ماذا تقصد أو تعنی انها تحتضر؟!

و یبهم السؤال بكلمة (نعم) (بلی).. انها مریضة..- اواه یا للكارثة، و یاللفزع والهول، ان وقعت المصیبة.

ثم یتسرب الخبر الی اطراف المخیم فیقض مضاجعهم.

فسقطن عند ذلك النسوة المنكوبات، یولولنّ و یلطمنّ الوجوه والصدور، عافیات علی رؤوسهن التراب صائحات، اللهم لا ترینا ساعة الفراق.

ادار الجمیع بعینیه حول هذه المرأة الصابرة المجتهدة بدینها، حینما جسدت ذلك الفداء، باسنادها للدین الجدید، بعدما تخلت عن البذخ والابهة، التی تربت علیها، اناملها من زینة و ترف.. فی سبیل الاسلام، لتسد به رمق المسلمین بعد ان قاطعتهم قریش فاستقام الدین بذلك، فتبوأت مقاماً محموداً عند ذی العرش العظیم (فبشرها اللَّه بالجنة، و ارسل لها سلامه).

اجل ها هی الآن تشخص بتلك العینین المضیئتین بنور اللَّه، كی تلقی آخر نظراتها علی ابنتها، التی لم تبلغ سناً یؤهلها الفراق عن امها.. فكانت خدیجة تتلوع حزناً علیها، فی حین تلوح علی ملامحها كل معانی الوفاء والحب و هی مقبلة علی خالقها.

.. و سریعاً ما تنقضی الساعات لتبرم النهایة، التی لا فرار منها، النهایة التی تفصل الاحباء عن محبیهم بكآبة و حزن و دموع.

فجلس عند ذلك الرسول بقرب زوجته الطاهرة، و هو یتأملها تاركاً لنظراته


الحزینة وجها المفتوح من الشجون، و هو بین لوعة و الم. یسكن عنها روعة الآخرة و یبشرها بالسعادة الابدیة. و فاطمة بینهم تشهد تلك اللحظات المفعمة بالقسوة علی قلب مرهف كقلب الزهراء.. و هی تقلب نظراتها الملتمعة بالدموع بین الام و ابیها.. و كأنها تخاطب نفسها: اَو حقاً سترحل، اَو ستتركنی، ماذا سیحل بأبی.

.. ثم ترتمی علی یدی امها تسكب علیه فیضاً من الدموع.. تلك الدموع التی تحمل معها الماضی السعید، بین احلام الصبی و صدر الام الذی تغمر انفاسها فیه.

ثم ترفع رأسها الجمیل، و تخاطب اُمها بكلمات تخنقها العبرة.

(فدتك نفسی یا اماه) فتمتمت الام بصورت واهن، و دعوعها تجری من عینیها و هی تتلمس و جنات ابنتها، تمسح عنها الدموع.. فتقلب وجهها بین البنت تارة و بین الاب تارة أخری.. ثم قالت بنبرة تملئها الشفقة والحب.

- (یا رسول اللَّه: فمال النبی نحوها و هو یقول: اننی بقربك اسمعك).

فرفعت خدیجة بیدیها المرتجفتین نحو جبینها الوضاء بنور اللَّه، و هی تحاول مراراً ان تسمح بعض قطرات العرق عنه، ثم قالت:

- (اننی قاصرة بحقك فاعفنی) فأجابها المصطفی و نظراته منصبة علیها، و قد فاضت نفسه حزناً و هماً، علی هذه المؤمنة الرشیدة و قال:

(حاشا و كلا ما رأیت تقصیراً.. و اللَّه فقد بلغت جهدك و تعبت فی داری غایة التعب، و بذلت أموالك حباً فی سبیل اللَّه)..

.. ثم اخذت عینا خدیجة تدور حتی ان وقعتا علی شخص ابنتها فاطمة، فتحسرت مستعبرة و هی تقول:

- (أوصیك بهذِه، فأنها یتیمة من بعدی غریبة؛ فلا یؤذیها أحد من نساء قریش و لو بكلمة فأن قلبی ینظرها؛ و لا یلطمنّ خدها فیكسرن قلبها و لا یصحن فی وجهها، و لا یرینها مكروهاً).

.. حدقت الزهراء فی وجه امها، كانت عیناها تغطان بحرارة الدموع و كأنهما


تكلمان الام عما سیضمه القدر لها من بعد الفراق.. و كأنی بسیدتی تضم وجهها بین یدیها المتشنجتین.. فابتدرت خدیجة الرقیقة توجه كلامها مرة اُخری للرسول:

- (عند كلام لا أود أن أقوله لك بلسانی خجلاً و استحیاءاً منك، فاننی أقوله لفاطمة).

.. عند ذلك خرج النبی متعباً مهموماً، و خلی المكان لخدیجة و ابنتها فقالت خدیجة و قد ملأت العبرات نفسها:

- (زهرائی، أبنتی، قرة عینی، قولی لابیك، ان اُمی تقول لك انی اخاف القبر اُرید منك ردائك الذی تلبسه حین نزول الوحی، تكفننی فیه).

.. و ما ان سمعت الزهراء وقع الكلمات حتی اُجهشت ببكاء و عویل فهرعت.. تركض الی ابیها متعثرة هائمة علی وجهها..

فجمدت الدموع وسط مآقیها، و هی تنقل ما قالته لها اُمها، فدفع النبی الیها الرداء، و قد علت ملامحه رقة و شفقة، و لسانه یدعو لهذه الزوجة المخلصة، التی ما فكرت طوال حیاتها مع الرسول فی ان تجعل لها من ذلك الثراء كفناً تأخذه من هذه الدنیا لقبرها.

.. و بعد لحظات تتقدم بنت العصمة لتدفع الرداء الذی ضمته بین قلبها و عینیها و قد ابتل جزء منه بالدموع ثم دفعته لامها و هی تبكی جزعاً، فعندما رأت خدیجة الرداء فاضت فرحاً و سروراً.